فصل: الشورى وعلماء الإسلام المعاصرون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي **


 الشورى وعلماء السلف

قلت أن منطق التجهيل والتفسيق، وإخراج المسلم من دائرة السلف لخلاف في الرأي أمر مرفوض، وقلت أن رمي المسلم لأخيه المسلم بالآيات التي نزلت بشأن اليهود أسلوب مستنكر وفتنة عظيمة - وكان قد مضى شيء من ذلك وقع فيه الأخ محمد سلامة جبر في رده على الأخ إبراهيم الصديقي‏.‏

وقلت أيضاً بأن قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ على ظاهرها من الوجوب في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وأجبت عن شبهات الأخ محمد سلامة ودعواه أنها ليست للوجوب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الشورى في أمهات المسائل - وحاشاه ذلك صلى الله عليه وسلم وإذا كانت للوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم وهو من هو نظراً ورأياً ورجاحة عقل واستناداً إلى الوحي وتأييداً بروح القدس فكيف بمن بعده صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏.‏

واليوم أنا معك أخي القارئ لنناقش أمراً خطيراً آخر، ذلك هو دعوى الإجماع على ما ذهب إليه الأخ محمد سلامة، من أن الشورى ليست واجبة في حق الرسول ولا في حق الإمام المجتهد بل هي جائزة‏!‏‏!‏ وادعى أن ذلك هو الإجماع الذي لا مخالف له ولا محيد عنه وأنه حكم الله وحكم رسوله وقول السلف قاطبة، وأن من لم يقل ذلك فقد خالف حكم الله ولم يرض به حيث قال بالنص‏:‏

‏"‏أقول هذا لأمر قررته، وحكم قضيته ‏(‏هكذا‏!‏‏!‏‏)‏ لم أقل فيه برأيي -وأعوذ بالله من القول بالرأي- ولا أفتيت باجتهادي فلست من أهل ذلك المقام، وإنما حكيت ما لا أعلم له مخالفاً من علمائنا الأعلام، ولا أعرف له راداً من أسلافنا الكرام‏"‏ ‏(‏البلاغ العدد 218 -ص32‏)‏‏.‏

واليوم أخي القارئ سأعفيك من رأيي وتعال ننظر ما قال السلف في هذه الآية ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏‏.‏

قال أبو حيان في البحر المحيط عن ابن عطية قوله‏:‏ ‏"‏الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا مما لا خلاف فيه‏"‏ أ‏.‏هـ ‏(‏البحر ج3 ص99‏)‏‏.‏

ونقل هذا القول أيضاً الشوكاني في فتح القدير ‏(‏ج1 ص360‏)‏‏.‏

أرأيت قوله أن الشورى من قواعد الشريعة أتكون القاعدة أمراً جائزاً أو أمراً مستحباً‏؟‏ ثم أرأيت قوله بأنه إذا ثبت أن الإمام لا يستشير أهل العلم والدين وجب عزله‏!‏‏!‏ ثم أرأيت قوله بأن هذا مما لا خلاف فيه‏!‏‏.‏

عجباً أرأيت هذه الدعوى لابن عطية التي ينقلها عنه من سلف ويثبتونها في كتبهم والتي يقول فيها ابن عطية -وقوله حق- إن السلف قاطبة على هذا هل العلم الموافق للنص أو ما ذهب إليه الأستاذ محمد سلامة، من أن الشورى أمر جائز وحالة استثنائية ولا تجب إلا على إمام مقلد‏.‏ وهل يجوز أن يكون هناك إمام مقلد‏!‏‏!‏‏؟‏‏.‏

-لهذا كلام مستقل يأتي إن شاء الله-‏.‏

قال الفخر الرازي في تفسيره ج3 ص83 ‏.‏

‏"‏ظاهر الأمر للوجوب فقوله وشاورهم في الأمر يقتضي الوجوب‏"‏‏.‏

وهذا نص لا يحتاج إلى تعليق‏.‏ ثم انظر معي كيف يرد الفخر الرازي قول من يقول بأن الأمر هنا للاستحباب‏:‏-

‏"‏وحمل ذلك الشافعي على الندب فقال هذا كقوله عليه السلام البكر تستأمر في نفسها ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييباً لنفسها فكذا هنا‏"‏‏.‏

قال الفخر الرازي قبل ذلك‏:‏- ‏"‏والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال فاعتبروا يا أولي الأبصار وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار، ومدح المستنبطين فقال سبحانه‏:‏-

{‏لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏، وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس عقلاً وذكاء وهذا يدل على أنه كان مأموراً بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه وحي، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأموراً بالمشاورة، وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وهو من أمور الدين‏.‏‏.‏‏"‏، ثم انظر بعد ذلك كيف يعيب الرازي من يخصصون النص بالقياس فيقول بعد النص السالف مباشرة‏:‏-

‏"‏والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم ثم ان إبليس خص نفسه بالقياس وهو قوله خلقتني من نار وخلقته من طين فصار ملعوناً فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزاً لما استحق اللعن بهذا السبب‏"‏‏.‏

هذه بعض آراء السلف واضحة صريحة وهذا حجاجهم فيما ذهبوا إليه‏.‏ ولكن العجب أن الأستاذ محمد سلامة قد رد الوجوب في الآية بما لا أظن أن أحداً من السلف قاله فقد قال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك الشورى في أمهات المسائل وقد أجبت عن هذا في المقال السابق، وحيث قلت أنني سأعفي القارئ من رأيي في هذا المقال فإني سأستشهد في هذا الأمر بسيد من سادات السلف حفظ مسند الإمام أحمد وهو خمسة وثلاثين ألف حديث وكتب خير سيرة للرسول والخلفاء ودول الإسلام وكتب خير التفاسير ذلكم هو ابن كثير رحمه الله قال في كتابه التفسير ج2 ص142‏:‏ ‏"‏‏{‏فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر‏}‏ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييباً لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه‏.‏ كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير‏.‏‏.‏ وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل‏.‏‏.‏

وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو‏.‏‏.‏، وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين‏.‏ فقال له الصديق إنا لم نجيء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قال، وقال في حديث الإفك ‏[‏أشيروا عليّ معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء‏!‏‏!‏ وأبنوهم بمن‏؟‏ والله ما علمت عليهم إلا خيراً‏]‏، واستشار علياً وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها، فكان يشاورهم في الحروب ونحوها‏"‏‏.‏

انتهى منه بلفظه مع حذف بعض الفقرات الزائدة عن مواضع الاستشهاد لأنها استطراد لما حدث بعد الشورى‏.‏

أرأيت أخي القارئ - بعد هذا كيف أن دعوى ترك الرسول للشورى في أمهات المسائل دعوى بلا برهان‏.‏ فالعجب بعد ذلك من الأخ محمد سلامة قال‏:‏- ‏"‏حكيت ما لم أعلم له مخالفاً‏.‏‏.‏ وأعوذ بالله من القول بالرأي‏"‏ سبحان الله إذا لم يكن هذا رأي فأين الرأي إذن‏؟‏‏!‏‏.‏

وإذا كان الرسول تاركاً للشورى في أمهات المسائل فلماذا يفعلها في أموره الخاصة والمحرجة أيضاً‏!‏‏!‏‏.‏

والأمر الخطير كل الخطر فيما ذكره الأخ محمد سلامة هو ادعاؤه الإجماع على كل ما قاله وهذا يعني أن كل قول مخالف إنما هو خروج عن سبيل المؤمنين وذلك قال ما قال في شأن الأخ إبراهيم الصديقي وقد علمت -أخي القارئ- من صدر المقال أن وجوب الشورى هو الذي كان عليه عامة السلف قبل ابن عطية ولذلك قال‏:‏ ‏"‏هذا مما لا خلاف فيه‏"‏ فكيف يدعي الأخ الكاتب الإجماع على أن الشورى غير واجبة‏.‏ هذا أمر خطير جداً‏!‏‏!‏‏.‏

واعلم أخي القارئ، أن الخلاف في الآية فقط إنما هو هل الشورى تلزم الرسول أم لا‏؟‏‏.‏

ولذلك قال ابن كثير رحمه الله‏:‏- ‏"‏وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجباً عليه أو من باب الندب تطييباً لقلوبهم‏"‏ على قولين‏.‏

إذن الخلاف هو في شأن الرسول وليس في شأن الأئمة بعده‏.‏ وأما رأي الشافعي رحمه الله فقد علمت رد الفخر الرازي له واعلم أيضاً أن الشافعي قاس أمر الشورى على مشاورة البكر في الزواج وهو يراها غير واجبة بل للأب أن يزوج ابنته بغير رضاها وهذا أيضاً خلاف للحديث فالأمر المقيس له باطل أيضاً بل يجب على الأب استئذان ابنته البكر في الزواج كما دلت على ذلك النصوص وليس هنا مجال تفصيل هذا الأمر‏.‏

لا غنى لولي الأمر عن المشاورة‏:‏

وأما الإمام ابن تيمية رحمه الله وهو من هو منزلة في علماء السلف فإنه يقول‏:‏- ‏"‏لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم‏"‏ أ‏.‏هـ‏.‏

انظر قوله ‏"‏لا غنى لولي الأمر عن المشاورة‏"‏ لتعلم أنه يقول بوجوبها لأن ما لا غنى لك عنه فهو واجب وما يجوز أن تستغني عنه فليس بواجب وقد اعتمد رحمه الله على الوجوب بالآية النازلة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ ‏(‏انظر السياسة الشرعية ص135‏)‏‏.‏

ثم استدل على ذلك أيضاً بحديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس مشورة لأصحابه‏.‏ ثم روى القول الثاني في تفسير الآية وهو أن الله قد أمر بالشورى نبيه لتأليف قلوب أصحابه ورواها بصيغة التضعيف ‏(‏وقد قيل‏)‏ ثم قال بعد ذلك ‏(‏فغيره صلى الله عليه وسلم أولى بالمشاورة‏)‏ أي إذا كان الله قد أمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم فغيره أولى لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي‏.‏ فهل يجوز بعد أن يقول أحد ليست الشورى لازمة ولا ملزمة ولا مخالف لذلك من علماء السلف‏!‏‏!‏‏؟‏‏.‏

وأما شيخ أهل التفسير كلهم ابن جرير رحمه الله فيقول في تفسيره عند أية الشورى بعد أن ذكر أقوال الناس فيها‏:‏

‏"‏وأولى الأقوال بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزمه من أمر عدوه ومكايد حربه تألفاً منه بذلك من لم يكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه فتنة الشيطان، وتعريفاً منه أمته ما في الأمور التي تحزبهم من بعده، ومطلبها‏.‏

ليتقدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم فيتشاوروا فيما بينهم كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم بفعله‏"‏‏.‏

وهذا نص صريح أيضاً من الطبري رحمه الله فهو وإن كان يرى أن الله قد أغنى نبيه عن آراء الناس إلا أن ذلك كان تأليفاً لأصحابه حتى لا يظنوا أنه يستأثر بالأمر دونهم، وليكون هذا سنة مثبتة في أمته من بعده فيقتدوا به صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يكون أمر الشورى سنة مثبتة إلا إذا كان الأمر بها لازماً‏.‏

لست أرى بعد عرض كل هذه الأقوال لعلماء السلف رضوان الله عليهم إلا التحذير من أن يتكلم إنسان ما باسمهم وهو لم يطلع على أقوالهم‏.‏

ثم إنني أذكر بأننا أمة وصلنا الحضيض الآن لعوامل كثيرة كان من أهمها استئثار بعض حكامها بالأمر دونهم فأي سند شرعي للظلم والاستبداد أبلغ من أن يقال لا يجب على ولي الأمر المجتهد أن يستشير بل له أن يبت برأيه فيما ينزل بأمته من نوازل‏!‏‏!‏‏.‏

ثم إنني لست أدري كيف نسمي ولي الأمر هذا الذي لا يستشير مجتهداً والشورى لازمة من لوازم الاجتهاد، وهل يستطيع إمام ما أن يصل إلى اجتهاد صحيح في نازلة من النوازل دون استشارة أهل الرأي والخبرة والتجربة‏؟‏‏!‏‏.‏

هذا ما لا أظن عاقلاً يخالف فيه‏.‏

فالقول بأن الإمام المجتهد له أن ينفرد برأيه دون مشورة ويحكم في الناس بما أداه إليه اجتهاده ظاهر السقوط واضح البطلان‏.‏ لأن الشورى من لوازم الاجتهاد‏.‏

 الشورى وعلماء الإسلام المعاصرون

في المقال السابق -الشورى وعلماء السلف- أوقفتك أخي القارئ على ما كتبه طائفة من خيار السلف في أمر الشورى وأنها لازمة للإمام وأن من لم يستنصح أهل الرأي والدين من أولي الأمر فعزله واجب وقد قرأت نص ابن عطية في ذلك وكذا الرازي وابن كثير وابن تيمية رحمهم الله ورضي عنهم جميعاً، وأن عامة السلف على ذلك إلا ما كان من رأي الإمام الشافعي رحمه الله وقد علمت رد الفخر الرازي عليه وأنه -أعني الشافعي- احتج بالقياس وقال الرازي لا قياس مع النص‏.‏

وقد يظن بعض الناس أن أمر الشورى قد تبدل عند علماء الإسلام المعاصرين وأنه قد جد جديد في فهم الناس للشورى ولذلك أحببت أن أطلعك اليوم على بعض ما كتبه علماء العصر من علمائنا الأفاضل عن وجوب مشاورة الحكام لأهل الرأي وعن لزوم مبدأ الشورى‏.‏

وقد توسعت قليلاً في مدلول العصر فنقلت لك نقولاً عن بعض من لقوا ربهم جل وعلا وعن بعض المعاصرين منهم‏.‏

* نقل الأستاذ رشيد رضا رحمه الله عن الشيخ محمد عبده قوله في الشورى -وشاورهم في الأمر- العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية أي دُم على المشاورة وواظب عليها كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة -غزوة أحد- وإن أخطئوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل، دون العمل برأي الرئيس وإن كان صواباً لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم -المشاورة- فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر‏"‏ أ‏.‏هـ‏.‏

وفي هذا النص فوائد عظيمة كثيرة‏:‏ منها أن المشاورة وإن تحقق منها ضرر في غزوة أحد إلا أن هذا الضرر يسير إذا قورن بالفوائد من إقرار نظام الشورى والأخذ به لأن الاستبداد بالرأي مستقبلاً ضرره عظيم وبهذا ترى أن رأي الشيخ رشيد ومحمد عبده أن الشورى واجبة على الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله في أمور الحرب ونحوها ليكون هذا تشريعاً للأمة بعده‏.‏

وبعد ذلك كتب الشيخ رشيد رضا كلاماً عظيماً في الشورى وطرق تطبيقها في العصر النبوي والخلافة الراشدة وكذلك الدولة الأموية ثم العباسية وكيف انحرف فيهما تطبيق هذا النظام حيث كان من جرائها ما يقول عنه بالنص‏:‏

‏"‏ثم رسخت السلطة الشخصية في زمن العباسيين لما كان للأعاجم من السلطان في ملكهم وجرى سائر ملوك المسلمين على ذلك، وجاراهم علماء الدين بعدما كان لعلماء السلف الصالح من الإنكار الشديد على الملوك والأمراء في زمن بني أمية، وأوائل زمن العباسيين فظن البعيد عن المسلمين، وكذا الغريب منهم أن السلطة في الإسلام استبدادية شخصية وأن الشورى محمدة اختيارية، فيالله العجب‏:‏ أيصرح كتاب الله بأن الأمر شورى فيجعل ذلك ثابتاً مقرراً، ويأمر نبيه -المعصوم من اتباع الهوى في سياسته وحكمه- ويأمره بأن يستشير حتى بعد أن كان من خطأ من غلب رأيهم في الشورى يوم أحد، - ثم يترك المسلمون الشورى لا يطالبون بها، وهم المخاطبون في القرآن بالأمور العامة كما تقدم بيانه مراراً كثيرة‏؟‏‏!‏ هذا وقد بلغ ملوكهم من الظلم والاستبداد مبلغاً صاروا فيه عاراً على الإسلام إلا من يتبرأ منهم ويبذل جهده في راحة العالم من شرهم‏"‏‏.‏‏.‏ انتهى ‏(‏المنار ج4 ص205‏)‏‏.‏

وهذا الكلام من الوضوح والقوة والبرهان بحيث لا يحتاج مني إلى تعليق إلا أن أتعجب من كلام الأخ محمد سلامة جبر الذي زعم أن آية الأمر بالشورى ليست للوجوب ولا مخالف لذلك من العلماء الأعلام‏!‏‏!‏ وأقول إذا لم يكن رشيد رضا علم من أعلام علماء السلف في عصرنا فليس هناك من علم أبداً‏!‏‏.‏

الشهيد عبدالقادر عودة رحمه الله يقول في كتابه التشريع الجنائي ص37‏:‏

‏"‏جاءت الشريعة الإسلامية مقررة لمبدأ الشورى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمرهم شورى بينهم‏}‏ و ‏{‏شاورهم في الأمر‏}‏ ولم يكن تقرير النظرية نتيجة لحال الجماعة فقد كان العرب في أدنى درجات الجهل وفي غاية التأخر والانحطاط وإنما قررت الشريعة النظرية لأنها قبل كل شيء من مستلزمات الشريعة الكاملة الدائمة المستعصية على التبديل والتعديل ولأن تقرير النظرية يؤدي بذاته إلى رفع مستوى الجماعة وحملهم على التفكير في المسائل العامة والاهتمام بها والنظر إلى مستقبل الأمة نظرة جدية والاشتراك في الحكم بطريق غير مباشر‏.‏‏.‏ والسيطرة على الحكام ومراقبتهم‏"‏ أ‏.‏هـ‏.‏

فالأستاذ عبدالقادر عودة يرحمه الله يرى كعامة علماء السلف أن الشورى مبدأ والمبدأ لا يكون جائزاً بل لا بد أن يكون واجباً لازماً‏.‏ وأن الشريعة قررته بالآيات السالفة، وأن هذا المبدأ من مستلزمات الشريعة الدائمة‏.‏

وقد جمع الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله بين قول الشيخ رشيد رضا وعبدالقادر عودة وقول علماء السلف القدامى وجاء كلامه عن الشورى متضمناً هذه المعاني جميعها وهذا يدل على سعة اطلاعه رحمه الله عند كتابة تفسيره وسأنقل لك -أخي القارئ- بعض الفقرات التي تدل على ذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏وبهذا النص الجازم -وشاورهم في الأمر- يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم حتى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولاه‏.‏ وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكاً في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه‏"‏‏.‏‏.‏ ثم يقول أيضاً بعد ذلك‏.‏‏.‏ ‏"‏لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة‏!‏ فقد كان من جرائها ظاهرياً وقوع خلل في وحدة الصف المسلم‏"‏‏.‏‏.‏ ثم يستطرد مبيناً ما حدث من استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج أو البقاء واختلافهم وما رآه في النوم وأوله بأنه قتل في أصحابه واستشهاد أحد أفراد أهل بيته ثم يقول‏:‏- ‏"‏وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى‏.‏‏.‏ ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات لأن إقرار المبدأ وتعليم الجماعة وتربية الأمة أكبر من الخسائر الوقتية‏"‏‏.‏‏.‏ ثم يستطرد قائلاً‏:‏

‏"‏ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة‏.‏ أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف‏.‏‏.‏ ولكن الإسلام كان ينشيء أمة ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية، وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تربى بالشورى وأن تدرب على حمل التبعة وأن تخطئ مهما يكن الخطأ جسيماً وذا نتائج مريرة - لتعرف كيف تصحح خطأها وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها‏.‏‏.‏

واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيه شيء من الكسب لها إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية‏.‏ إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية‏.‏ ولكنها تخسر نفسها وتخسر وجودها وتخسر تربيتها وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية كالطفل الذين يمنع من مزاولة المشي -مثلاً- لتوفير العثرات والخبطات أو توفير الحذاء‏"‏ ثم يستطرد رحمه الله مبيناً أن وجود القيادة الراشدة لا يمنع الشورى فيقول‏:‏ ‏"‏ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى ويمنع تدريب الأمة عليها تدريباً عملياً واقعياً في أخطر الشؤون -كمعركة أحد- ‏.‏‏.‏ لكان وجود الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى كافياً لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها‏.‏‏.‏ ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات‏:‏- ‏{‏فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر‏}‏ ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله‏.‏‏.‏‏"‏ انتهى‏.‏

وبعد فهذا كلام رشيد يجلي لنا روح الوحي ويوقفنا على أسرار التنزيل وما أرى معه حجة لمكابر وذلك أن الأمر في الآية بهذه الظروف والملابسات التي أحاطت به يعني أنه أمر جازم لا جائز - جاء ليرسي في الأمة قاعدة من أهم القواعد التي يقوم عليها بناؤها السياسي والاجتماعي ألا وهي قاعدة الشورى‏.‏‏.‏

وحتى لا أترك في نفس القارئ شيئاً من أن مبدأ الشورى مبدأ مقرر ثابت وليس شيئاً طارئاً جائزاً فإنني سأزيده بياناً واستدلالاً‏.‏

كتب الدكتور محمود بابللي كتاباً جيداً بعنوان -الشورى في الإسلام- وهذه فقرات منه ‏"‏إن مبدأ الشورى لم يسبق أن اتخذته أمة إلزاماً لولي أمرها والتزاماً للجماعة كما اتخذته الأمة الإسلامية بنص القرآن‏"‏‏.‏‏.‏

وأما الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة فقد كتب في هذا الموضوع يقول‏:‏

‏"‏يجب على ولاة الأمر أن يشجعوا القول المخالف، كما يريدون القول الموافق إذا لم يكن عماد الأمر الهوى المتبع فإنه لا يقتل الشورى والآراء القويمة إلا الرغبة في الموافقة والتململ من المخالفة فإن المخالف يأتي الحاكم بجديد من الفكر ويكون مرشداً، والموافق يأتيه بما عنده وما ليس بجديد عليه فهو يسمع منه صوتاً ويرجع إليه صداه‏"‏‏.‏

هذا كلام عظيم في الشورى إذ يوجب الأستاذ هنا على الحاكم تشجيع الرأي المخالف فكيف بإخراج الرأي الجديد والفكرة السديدة الغائبة التي هي غاية من غايات الشورى‏.‏ لا شك أنها تكون أشد وجوباً ولزوماً ويقول أيضاً‏:‏

‏"‏عندما تكون الشورى مبدأ للأمة‏.‏ حكامها وأفرادها فإن هذه الأمة تكون متوجهة للخير في جميع أمورها وتنعكس هذه النتيجة على أوضاعها تقدماً ورقياً‏"‏‏.‏‏.‏

ومن الكلام الجيد في هذا الصدد أيضاً قول محمود بابللي أن عرض كل أمور الأمة على الشورى من واجبات الحاكم وليست حقاً له لقوله تعالى‏:‏ -وشاورهم في الأمر- فالنص يوجب على الحاكم أن يستشير في كل أمر للأمة صغر هذا الأمر أو كبر‏.‏‏.‏

ومعنى أنه واجب على الحاكم أن للأمة أن تطالبه بتنفيذه إذا قصر فيه، أما إذا كانت الشورى حقاً له فعند ذلك يجوز أن يتنازل عن هذا الحق ولا يكون للأمة المطالبة به لأنه من حقه هو، وهذا كلام جيد موفق في هذا الصدد‏.‏‏.‏

وقد وقفت أيضاً على كلام حسن ما يشبه ما نقلته لك سابقاً من قول عند الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه التفسير الحديث للقرآن الكريم يقول‏:‏

‏"‏وروح الآية ومضمونها يوجبان على الرئيس والزعيم والحاكم الاستشارة في كل أمر وعزيمة‏"‏ ‏(‏ص173 ج8‏)‏، وقال أيضاً‏:‏ ‏"‏أكد القرآن هذا المبدأ بأسلوب الإيجاب والتنفيذ‏"‏ ‏(‏المصدر السابق‏)‏‏.‏

وقد وقفت على عبارة جليلة للأخ عبدالله العقيل -وهو رجل له مكانته وعلمه- يقول فيها‏:‏

‏"‏الشورى حق للرعية، واجبة على ولي الأمر وهذا لا يختلف فيه إثنان، ولا تنتطح فيه عنزان‏.‏‏.‏ -المجتمع العدد 43- ولكن ها نحن نجد من يخالف في الأمور الثابتة المقررة‏!‏‏!‏‏.‏

وبعد -أخي القارئ- لقد أتعبت نفسي أن أجد موافقاً للأخ محمد سلامة من كتاب الإسلام المعاصرين في أن الشورى أمر جائز وأنها حق للإمام إن شاء فعلها وإن شاء تركها فلم أجد وأما بين السلف القدامى فليس إلا رأي الإمام الشافعي وقد قرأت رد الفخر الرازي عليه وكان في منتهى القوة والوضوح وكذلك رد الإمام ابن كثير رحمه الله وكان في منتهى الأدب واللطف ومرة ثانية أيجوز أن يقول كاتب في الإسلام بعد ذلك أن الشورى أمر جائز وهي من حقوق الإمام ثم يقول - ‏"‏حكيت ما لم أعلم له مخالفاً من سلفنا الكرام وعلمائنا الأعلام‏!‏‏!‏‏"‏‏.‏

وأقول لقد ابتلينا في عصرنا بالاستبداد والتسلط وإبرام الأمور في غيبة الأمة فهل يكون من الإنصاف والعدل أن نحطم قاعدة الشورى في هذا الوقت ونحن أحوج ما نكون إليها وآسف إن قلت -نحطم- فلن يستطيع أحد تبديل كلام الله تبارك وتعالى ولكن يستطيع إلقاء الشبه عليه‏.‏‏.‏ ولكن يبقى دين الله تبارك وتعالى بعد ذلك نقياً صافياً لأن الزبد مهما علا لا بد أن يذهب وتبقى صفحة الماء نقية صافية‏.‏‏.‏

وسامح الله الأخ الكريم ورده إلى الحق والصواب ويبدو أنه لا بد لي معك -أخي القارئ- من جولة في هذا الموضوع تعطيك صورة واضحة جلية عن ميدانه وتطبيقاته وثمرته وأسأل الله في هذا العون والسداد والتوفيق وإلى مقال آخر إن شاء الله تعالى‏.‏

 رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بالشورى

في المقالين السابقين سقت لكم طائفة من أقوال السلف كابن عطية وابن تيمية والفخر الرازي وابن كثير وكلها تثبت وجوب الشورى على الإمام‏.‏ وكذلك نقلت لك نقولاً كثيرة طيبة من أقوال علمائنا الأفاضل المعاصرين كمحمد عبده، ورشيد رضا، وعبدالقادر عودة، وأبي زهرة، وسيد قطب، ومحمد عزة دروزة، ومحمود بابلي، وعبدالله العقيل‏.‏

وأظن أنك قد وصلت إلى يقين ثابت بأن الشورى مبدأ واجب على الإمام وليس أمراً مستحباً ولا جائزاً، وهذا ما كان عليه سلف الأمة وما عليه العلماء الكرام في عصرنا الحاضر‏.‏

وكان المفروض أن يأتيك هذين المقالين قبل أن يصلك رد الأخ محمد سلامة جبر على مقالي الأول الذي كان فاتحة أردت بها تمهيد الطريق، ووضع الأسس للمناقشة التي يراد بها وجه الله تعالى، ولكن شاءت إرادة الله أن يكون ما كان‏.‏

ولقد قرأت مقال الأخ محمد سلامة على مقالي الأول فأيقنت أن الطريق الوعر ما زال موجوداً، وأن القضية التي طرحتها في المقال الأول ما زالت قائمة‏:‏ ألا وهي قضية الرمي بالجهل والفسق والكفر أيضاً بين المسلمين لخلاف الرأي‏.‏ وهذه القضية أعتبرها أخطر من مناقشة موضوع الشورى‏.‏

ورأيت أيضاً أننا سنبتعد كثيراً عن موضوعنا الأساسي وذلك بالدخول في مسائل شخصية، وقضايا فرعية ليست من صلب الموضوع، ووجدتني مضطراً أحياناً -إن واصلت المناقشة- أن أورد الأدلة لأثبت المسلمات والبديهيات والأمور الواضحة الجلية التي لا تخفى على طالب العلم‏.‏

فرفعت سماعة المسرة ‏(‏التلفون‏)‏، واتصلت بالأخ جمال النهري ‏(‏كان رئيس التحرير في مجلة البلاغ في ذلك الوقت‏)‏ وقلت له‏:‏ إن الطريق وعر‏!‏ ولكي أرد على مقال الأخ محمد سلامة فإنني سأحتاج إلى عدة مقالات‏.‏ فقال‏:‏ ناقش الموضوع الرئيسي الشورى واترك الموضوعات الفرعية‏.‏ قلت‏:‏ كيف أناقش الموضوع الرئيسي وقد أصبحت متهماً لدى القراء بأنني أفضل من دون الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في الدعاء والذكر‏!‏ قال بين هذا الأمر‏.‏ قلت هناك أمثلة كثيرة وأخطر من هذا فلقد اتهمت أيضاً من الأخ محمد سلامة بأنني غير راض بحكم الله سبحانه وتعالى وأنني أكاد أن أصرح بهذا وكاد المريب أن يقول خذوني‏!‏ فقال‏:‏ ألا تستطيعون يا معشر الإسلاميين أن تلتزموا آداب البحث والمناظرة لتعلموا الناس طريق الحق‏.‏ قلت‏:‏ أتمنى ذلك ولكن ما موقفك إن وضعت العقبات في طريقك‏.‏ قال‏:‏ فلنعمل على إزالتها‏.‏ قلت‏:‏ سيكلفنا هذا وقتاً طويلاً، وسنشد القراء معنا إلى متاهات فرعية قد تشغلهم عن الموضوع الرئيسي وكنت أتمنى أن نفرغ جهدنا في الموضوع ذاته‏.‏ قال‏:‏ هذا هو الواقع، ولا يكفي أن تقرر الحق من فوق منبرك بل يجب أن تنزل به إلى واقع الناس، وتناقشهم وتجادلهم بما معك وتتحمل في ذلك عقبات الطريق‏!‏ قلت‏:‏ غلبتني وما لكلامك الآن مدفع وأستعين الله في الأمر كله‏.‏

أستميح القارئ عذراً إن بدأت ببيان المسائل الشخصية‏.‏ والقضايا الفرعية التي أثيرت في مقال الأخ محمد سلامة ثم ندخل بعد ذلك إلى موضوع الشورى‏.‏

قال الأخ محمد سلامة‏:‏ ‏"‏لا يحل لك يا أخي أن تذكر قول رسول الله ثم تقول ‏(‏هكذا‏)‏‏!‏ ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏‏.‏ وعوضك على الله في قليل من الخير والجهد‏.‏‏.‏ وليس من الأدب مع سيد البشر أن نبخل عليه بالصلاة والسلام كلما ذكر اسمه‏.‏‏.‏ بينما حين ذكرت عائشة قلت رضي الله عنها‏.‏‏.‏ وحين ذكرت ابن تيمية قلت رحمه الله‏.‏‏.‏ أما أن تفضل من دون الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء له، والثناء عليه فأمر مستنكر لا يجوز‏"‏‏.‏

وأقول‏:‏ يا أخي لقد كنت متبعاً في ذلك إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله‏.‏ كما نقل ذلك عنه الإمام السيوطي في تدريب الراوي‏.‏ وانظر أيضاً الباعث الحثيث لابن كثير رحمه الله وتعليق العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله فهل تنكر هذا على إمام أهل السنة أحمد بن حنبل أيضاً‏؟‏‏!‏ واعلم أنني أقول الصلاة في نفسي عند كتابة ‏(‏ص‏)‏ وإذا قرأت لا أقرأ ‏(‏ص‏)‏ وإنما أقول صلى الله عليه وسلم وهذا صنيع طائفة عظيمة من أهل السنة‏.‏ وانظر أيضاً قول ابن حجر في فتح الباري عند شرحه لحديث البخاري الأول ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏ وانظر كذلك تفسير المنار للشيخ رشيد رضا وكيف يكتب بعد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهبني فعلت هذا غير متبع لإمام هل يعني هذا أني أفضل عائشة رضي الله عنها، وابن تيمية على رسول الله‏؟‏‏!‏ ولو فعل إنسان هذا لكان كافراً‏.‏‏.‏ فهل تظن بي ذلك‏؟‏‏!‏‏.‏

* قلت في مقالي الأول‏:‏ لا يجوز أن تقول يا أخ محمد لمن خالفك الرأي في فهم نص من القرآن أو السنة ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم‏}‏ لأنني لم أطلب منك التحاكم إلى هواي ونفسي‏.‏ ولا إلى التوراة أو الإنجيل وإنما قلت كما قال سلف الأمة وعلماؤها جميعاً -إلا من شذ- أن قوله تعالى ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ تقتضي الوجوب ولا صارف لهذا الوجوب‏.‏ وقلت أنت بل هي للندب وزعمت أن الرسول ترك الشورى في أمهات المسائل‏!‏‏.‏

وأكدت قولك هذا بأن سلف الأمة جميعهم على رأيك وقولك‏.‏ وإنك لم تطلع أبداً على مخالف لرأيك‏.‏ وكل منا يقيم الحجة على قوله‏.‏ وكلنا يزعم التحاكم إلى الكتاب والسنة‏.‏ وأقوال السلف‏.‏ فلماذا تقول لي‏:‏ لست بمؤمن إذا لم تذعن لأمر الله‏!‏ وهل دعوتك إلى الإذعان لأمره، والتمسك بكتابه‏.‏ قال الأستاذ محمد سلامة‏:‏ أنت مريب وكاد المريب أن يقول خذوني‏!‏ فهل شققت عن قلبي فرأيت فيه الريبة‏؟‏‏!‏ أم فهمت هذا من قولي‏؟‏ أرجو أن تنقل من قولي ما تثبت به عقيدتك أو ظنك‏؟‏‏!‏ وليكن هذا نصاً ليحكم القراء‏.‏

* قلت للأخ محمد سلامة‏:‏ لا ترم أخاك بآية نزلت في شأن اليهود‏:‏ ‏{‏وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا‏}‏ قال‏:‏ ألا تعرف أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏؟‏ أم أنك تجهل ذلك‏؟‏‏!‏ ثم رتب على سؤاله هذا أنني أجهل هذه القاعدة‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ألا فاعلم علمني الله وإياك‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ والله إني لأعلم القاعدة قبل أن أقرأ مقالتك، ولكن تعال معي‏:‏ هل تبيح لك هذه القاعدة أن تدخل الأخ المسلم الذي خالفك الرأي في عمومها‏؟‏ تعال نتدارس السبب والعموم‏:‏ عموم الحكم في الآية الصم والعمي الذي أصيب به اليهود عقاباً لهم من الله، وسبب ذلك ما ذكره الله قبل هذه الآية‏:‏ ‏{‏لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل، وأرسلنا إليهم رسلاً، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

فالسبب إذن تكذيبهم للرسل وقتلهم لهم، وحسبانهم أن الله لا يعاقبهم على ذلك‏!‏‏.‏

فهل كذب أخوك الرسول‏؟‏‏!‏ وهل تآمر على قتله‏؟‏‏!‏ لو فعل هذا أو قريباً منه لاستحق أن يدخل في عموم الآية ولكنه خالفك الرأي فقط‏!‏‏.‏

* كنت عندما قرأت المقالات الأولى في الشورى للأخ محمد سلامة أصبت بدوار وألم -علم الله- وما ذلك إلا لكراهيتي أن أسمع سب المسلم للمسلم وتكفيره له‏.‏ والسبب في ذلك أنني أرى أن هذا من جملة التمزيق والضياع الذي تعيش فيه أمتنا‏.‏ وقلت في مقالي الأول ‏(‏إلى متى نتجرع هذه الآلام‏.‏ ونعيش في هذا الضياع‏؟‏‏!‏‏)‏ ولكن الأخ محمد سلامة سخر من آلامي وحمد الله أن عافاه منها فقال بالنص‏:‏ ‏"‏وقرأت الرد‏.‏‏.‏ وأسفت‏.‏‏.‏ ولكن لم أصب بدوار والحمد لله كالذي أصاب عبدالرحمن كما قال عافاه الله‏"‏‏.‏

وأقول الآن‏:‏ يا أخ محمد سلامة إنني أحتسب آلامي هذه عند الله وأرجو ثوابها عنده فهل تنكر علي أن أعيش بآلام أمتي، وأن أحيا بآمالها إنني أعتقد أن هذا من فضل الله علي ورحمته لي أن جعلني أشعر هذا الشعور وأحيا هذه الحياة‏.‏ فابتسام المسلم في وجه أخيه المسلم يحييني ويبهجني ويفرحني، وسب المسلم لأخيه المسلم يؤلمني ويؤرقني‏.‏ فإن كنت ترى هذه عافية لك وتحمد الله عليها‏.‏ فلا ألومك لأنها نعمة حرمتها‏!‏ ولأنني أحب لك ما أحب لنفسي أقول‏:‏ أذاقك الله شيئاً مما أذوق، وعوضك عنه خيراً في الدنيا والآخرة‏.‏

* كان عنوان رد الأخ محمد سلامة على مقالي الأول على هذا النحو‏:‏ ‏"‏إني أراك وأرى نفسي، والصديقي من الجهال إذا قسنا أنفسنا بفقهاء الصحابة‏"‏‏.‏

وأقول أنا لم أقس نفسي بفقهاء الصحابة لا بالنص ولا بالمفهوم فلماذا يتهمني الأخ محمد بشيء ثم يرتب عليه حكماً من عنده‏؟‏ فإن كنت قلت شيئاً من هذا فليذكره الأخ محمد للقراء بالنص‏.‏ وإن كان قد فهم هذا من كلامي، فليذكر الكلام الذي فهم منهم هذا الفهم ليعرف القراء ويحكموا على فهمه بالصحة أو البطلان‏.‏

وأظن أنه لا يجوز أن أقول لإنسان ما‏:‏ أنت كافر إذا سببت الله‏!‏ والحال أنه لم يسبه، ولا هو في موضع التعليم، فكذلك لا يجوز أن يقال لي‏:‏ أنت جاهل إن فعلت كذا وأنا لم أفعل وأنت فاسق إن فعلت كذا وأنا لم أفعل إلا إن كان المتكلم يريد أن يعلمني حكماً جديداً‏.‏ فهل يقصد الأخ محمد أن يعلمني هذا الحكم الجديد‏!‏ أم أنني جعلت نفسي فعلاً كفقهاء الصحابة‏؟‏‏!‏‏.‏

أخي القارئ، هذه بعض القضايا الشخصية والأمور الفرعية الخارجية عن موضوع النقاش والبحث، وقد ضربت صفحاً عن قضايا أخرى كثيرة بعضها أكثر نكارة من بعض ما ذكر آنفاً‏.‏ وأعتذر إليك من الإطالة ولندخل الآن إلى موضوع الشورى، وحتى لا نتيه في خضم التفصيلات سأحدد معك أصل الموضوع، ومجرى النقاش فيه ومحل الخلاف منه، ولتكون على معرفة تامة بأبعاده‏.‏

* أصل الموضوع‏:‏

أصل الموضوع‏:‏ هل يجب على الإمام أن يستشير الناس فيما يعرض له من شؤون المسلمين أم له أن يحكم باجتهاده ورأيه دون الرجوع إليهم‏.‏ قال الأخ محمد سلامة‏:‏ لا يجب عليه بل يجوز أو يحسن إذا كان مجتهداً‏.‏ وقال عامة السلف كما نقلنا لك أقوالهم‏:‏ بل يجب عليه، ولا يجوز له أن يقطع في أمر من أمورهم دون الرجوع إليهم لأن الشورى واجبة عليه وليست حقاً له‏.‏ قال محمد سلامة‏:‏ ليس هناك دليل على الوجوب‏.‏ قلنا له‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ دليل على الوجوب فهي أمر للرسول صلى الله عليه وسلم فغيره أولى‏.‏ قال‏:‏ ليست واجبة على الرسول لأن الرسول ترك الشورى في أمهات المسائل فقد تركها في غزوة بني قريظة وفي صلح الحديبية، ومصالحة غطفان، وفي غزوة تبوك‏.‏ ثم قال أيضاً والذين قالوا بأن هذه الآية للوجوب قد قالوا قولاً منكراً لم يقل به أحد من سلف الأمة وعلمائها الأعلام‏.‏

* قلت‏:‏ بل سلف الأمة وتابعوهم بإحسان جميعاً -إلا من شذ- على وجوب الشورى على الإمام‏.‏ قال‏:‏ دلوني على رجل واحد جزاكم الله خيراً قلت‏:‏ هاك من أقوال القدامى‏:‏ ابن عطية، وابن تيمية، وابن كثير، والفخر الرازي، وكل أولئك نقلنا لك كلامهم بالنص مع أرقام صفحاتهم‏.‏ ومن المحدثين محمد عبده، ورشيد رضا، وعبدالقادر عودة، وسيد قطب، وأبي زهرة، ومحمود بابللي، ومحمد عزة دروزة، وعبدالله العقيل‏.‏ وقد نقلنا لك أيضاً نص كلامهم لا معناه‏.‏

قال محمد سلامة‏:‏ فقد ترك الرسول الشورى في أمهات المسائل‏:‏ قلت‏:‏ رسولنا صلى الله عليه وسلم وبأبي هو وأمي ما كان ليخالف أمر ربه سبحانه وتعالى سواء كان أمراً واجباً أم أمراً مستحباً، فهبني قلت معك أن الأمر في الآية للاستحباب بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم فهل تظن أن الرسول يترك أمر الاستحباب‏؟‏‏!‏ وهو قدوة الأمة وأسوتها‏؟‏‏!‏ والسباق دائماً إلى امتثال أمر الله تبارك وتعالى‏؟‏‏!‏ وإذا كنت يا أخ محمد ترمي بالجهل والكفر من أحدث قولاً جديداً لم يقل به سلف الأمة‏.‏

فهل تستطيع أن تدلنا على قائل من السلف قال هذه المقالة ‏(‏ترك الرسول الشورى في أمهات المسائل‏)‏‏.‏

وسأتساهل معك هل تستطيع أن تنقله عن أحد من الخلف بل هل تستطيع أن تنقله عن أحد من المستشرقين لا المنصفين منهم بل والمتعصبين أيضاً‏؟‏‏!‏ إن استطعت أن تدلنا على نص كهذا‏.‏‏.‏ وإن لم تستطع فأرجو أن تحكم على نفسك‏!‏‏.‏

وأعلم أن مقالتك هذه في حق الرسول صلى الله عليه وسلم تدمي قلب كل رجل مسلم‏.‏ فهي اتهام للرسول بأنه كان يخالف أمر ربه تبارك وتعالى‏.‏ وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يترك امتثال أمر واجب أو أمر مستحب لأنه هو القائل‏:‏ ‏[‏إن أعلمكم بالله، وأتقاكم لله أنا‏]‏ ‏(‏رواه البخاري‏)‏ ثم قال الأخ محمد سلامة‏:‏ ألم يترك الرسول المشورة في الأمور السابقة‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ كلا بل كان مأموراً من ربه جل وعلا وما كان الرسول مأموراً فيه‏.‏ فلا يدخل في مجال الشورى‏.‏ أما في غزوة بني قريظة فقد أتاه الأمر الصريح الواضح من جبريل‏:‏ ‏[‏إن ربك يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة‏!‏‏]‏ قال محمد سلامة‏:‏ إن صح الحديث قلت به وعلى العين والرأس قلت‏:‏ يا أخ محمد سلامة أحسنت إذ تقبل الحديث وتضعه على العين والرأس وهذا شأن المؤمن، ولكن العلماء، لا يقولون هذه العبارة‏:‏ ‏(‏إن صح الحديث قلت به‏)‏ إلا فيما خبروا سنده ورأوه غير صحيح عندهم وظنوا أنه ربما كانت له طريق أخرى صحيحة وهذا الحديث ليس شأنه هكذا فلو أنك أتعبت نفسك قليلاً وفتحت صحيح البخاري أو مسلم أو مسند الإمام أحمد أو شيئاً من كتب السيرة والتاريخ لوقفت على عدد من الأحاديث في هذا الصدد بهذا النص وبهذا المعنى أيضاً وسأسوق لك بعضها‏:‏

1- روى البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال‏:‏ قد وضعت السلاح‏؟‏‏!‏ والله ما وضعناه‏.‏ فاخرج إليهم‏!‏ قال‏:‏ فإلى أين‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ها هنا وأشار إلى بني قريظة‏.‏ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

2- روى البخاري أيضاً بإسناده عن أنس بن مالك قال‏:‏ كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم موكب جبريل حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة‏.‏

وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح إلى عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل، وجاء جبريل فرأيته من خلل البيت‏.‏ وقد عصب رأسه الغبار‏.‏ فقال‏:‏ يا محمد‏!‏ قد وضعتم أسلحتكم‏؟‏ فقال‏:‏ وضعنا أسلحتنا‏!‏ فقال‏:‏ إنا لم نضع أسلحتنا بعد‏.‏ إنهض إلى بني قريظة‏!‏‏.‏

وروى البيهقي بإسناده أيضاً عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها‏.‏ قالت‏:‏ فسلم علينا رجل ونحن في البيت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً، وقمت في إثره فإذا بدحية الكلبي فقال‏:‏ هذا جبريل أمرني أن أذهب إلى بني قريظة‏!‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏‏.‏ وانظر أيضاً سيرة ابن هشام ففيها هذا الحديث بإسناد الزهري الصحيح‏.‏

وقال الأخ محمد سلامة في مقال الرد بعد إيراده لحديث جبريل الذي ذكرته به‏:‏-

‏"‏إن صح الحديث‏.‏‏.‏ أسلم به‏.‏‏.‏ ولكن سقوط دليل أو أكثر من عديد الأدلة التي أوردتها لا يكفي لسقوط المدلول‏"‏ قلت‏:‏ ولكن تذكر أن هذه كانت من الأمهات التي زعمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم خالف فيها أمر الشورى‏.‏

وأما صلح الحديبية يا صاحبي فلم يكن إلا بأمر الله عز وجل يدلك على ذلك أن ناقة الرسول بركت قبل مكة وفسر الصحابة بروكها بقولهم ‏(‏خلأت الناقة‏)‏ فأجابهم الرسول ‏[‏ما خلأت ولا هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة‏]‏ وهل كان حابس الفيل إلا أمر الله للفيل ‏(‏محمود‏)‏ مقدم لجيش أبرهة بأن لا يخطو خطوة واحدة عندما وصل وادي محسر‏.‏ وأليس في هذه إشارة صريحة من الله للرسول صلى الله عليه وسلم بعدم تعدي هذا المكان والقبول بما يعرضه العدو‏.‏ وجاء المشركون يريدون الحرب واستفزوا الرسول صلى الله عليه وسلم فمال عن طريقهم وأرسل الهدي في وجوههم ثم رغبت قريش في الصلح فأذعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأملوا عليه شروطهم القاسية فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستشر الصحابة بالطبع على هذه لأنه كان مأموراً من الله أن يقبل ولقائل أن يقول وما دليلك على أنه مأمور‏.‏ قلت أتريدون أصرح من قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه‏!‏ استمعوا له يقول لعمر رضي الله عنه وقد اعترض عليه‏:‏

‏[‏أنا عبدالله، ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني‏]‏‏.‏

أتريدون أصرح من هذا‏!‏ ليس عندي أصرح من هذا إلا قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏ وهذا الفتح هو صلح الحديبية‏.‏ وقد أقسم الرسول لعمر أنه فتح لما قرأ عليه صلى الله عليه وسلم هذه السورة عند عودته من غزوة الحديبية‏.‏ فالله يقول ‏{‏إنا فتحنا لك‏.‏‏.‏‏}‏ فهو الذي فعل سبحانه وتعالى وليس هذا الأمر مما يحتاج إلى مشورة‏.‏

قال محمد سلامة‏:‏ أما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أنه ربي ولن يضيعني‏]‏ فلم يفهم منه أنه وحي، وإلا لما استمر عمر في عناده مثقال ذرة‏!‏‏.‏

قلت‏:‏ أتريد مني أن أجيب لك عن عمر‏؟‏‏!‏ كلا لن أجيب عنه، ولكن سأقدمه هو رضوان الله عليه ليجيب عن نفسه‏.‏

اسمع إلى الزهري إمام أهل السنة وحافظتهم في عصره يقول‏:‏ ‏"‏‏.‏‏.‏ فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر، ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر فأتى أبا بكر الصديق فقال يا أبا بكر أليس برسول الله‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ أو لسنا بالمسلمين‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ أو ليسوا بالمشركين‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فعلام نعطي الدنية من ديننا‏؟‏ قال أبو بكر‏:‏ يا عمر الزم غرزه‏!‏‏!‏ فإني أشهد أنه رسول الله‏.‏ قال عمر‏:‏ وأنا أشهد أنه رسول الله‏!‏ ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله ألست برسول الله‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فعلام نعطي الدنية من ديننا‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏[‏أنا عبدالله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني‏!‏‏!‏‏]‏ وكان عمر يقول‏:‏ ‏"‏ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ‏"‏ انتهى بالنص هل تريد جواباً أشفى من هذا واعتذاراً أبلغ من هذا من فم عمر نفسه رضي الله عنه وأرضاه‏.‏ اسمع أيضاً قول الصحابي الجليل سهل بن حنيف يحذر من الرأي في مواجهة النص فيقول‏:‏

‏"‏أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد كدت أن أرد على رسول الله أمره يوم حادثة أبي جندل‏!‏‏"‏ ‏(‏البخاري كتاب الاعتصام ص75 ج9‏)‏ وهل هذا اليوم إلا يوم الحديبية‏؟‏ وهل أبو جندل إلا ابن سهيل بن عمر الذي عقد صلح الحديبية مع الرسول وهل أمر الرسول إلا رسالته وهي التي كان الصحابي الجليل سهل بن حنيف سيردها لولا لطف الله به وتثبيته إياه‏.‏

والآن بقي دليل واحد مما استدل به الأخ محمد سلامة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك الشورى في أمهات المسائل -وحاشاه صلوات الله وسلامه عليه- وهو أنه غزا تبوك دون استشارة أصحابه وهنا لن أرد على هذا الدليل أيضاً وإنما سيرد ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم وابن كثير فاستمع إليهم‏.‏

* قال ابن كثير في البداية والنهاية ج5 ص2‏:‏ ‏"‏روى ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم أنه لما أمر الله تعالى ‏(‏رسوله‏)‏ أن يمنع المشركين من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره قالت قريش‏:‏

لينقطعن عنا المتاجر والأسواق أيام الحج، وليذهبن ما كنا نصيب منها فعوضهم الله عن ذلك بالأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏ قلت -أي ابن كثير وهذا تتمة كلامه-‏:‏ فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام وأهله‏"‏ انتهى فإن كان الأخ محمد سلامة يملك دفعاً لهذه الأقوال عن السلف فليفعل وليناقش ابن كثير فيما ذهب إليه وسأرقب مع القراء كيف تكون نتيجة المعركة بين علماء السلف السابقين الذين يقولون بأن الرسول كان مأموراً بذلك ولهذا نفذ بلا مشورة وبين الأستاذ محمد سلامة جبر الذي يقول ذهب الرسول إلى تبوك بغير مشورة‏!‏‏.‏

والآن لا أجد بين يدي دليلاً آخر مما استدل به الأخ يحتاج إلى نقاش بشأن ترك الرسول الشورى في أمهات المسائل‏!‏ فهل يملك الأخ سوى ما سبق‏؟‏‏!‏‏!‏‏.‏

والآن أحدد مطالبي من الأخ سلامة على هذا النحو‏:‏

قائل يقول معه بأن الرسول ترك الشورى في أمهات المسائل وسأرضى أن يكون من السلف أو الخلف أو متعصبي المستشرقين‏.‏ ولعل القارئ يسأل عن سر تمسكي بهذا الأمر، ولا بأس أن أبين السبب وقد وضحت شيئاً منه سابقاً‏:‏

السبب هو أن المستشرقين المتعصبين منهم لم يستطيعون أن يقدحوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن الشورى إلا بأنه كان يستشير الناس كما أمره الله ولكنه كان ينفرد برأيه وسموا هذا استبداداً ولا أعلم أحداً منهم -فيما قرأت- اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ترك المشاورة في أمهات المسائل‏.‏

والأمر الثاني‏:‏ ما رأي الأخ محمد سلامة في العلماء القدامى والمحدثين الذين نقلنا أقوالهم بالنص في وجوب الشورى‏.‏ أرجو أن يناقشهم وهم يحكم عليهم‏.‏

أثبت لي حادثة واحدة ترك فيها الرسول الشورى صلى الله عليه وسلم‏.‏ بل أعطني مثالاً واحداً ترك فيه الرسول صلى الله عليه وسلم التزام الأمر المستحب‏!‏‏!‏ أي أمر الشورى أم غيرها من الأمور المستحبة‏.‏

والآن لم يبق إلا أن يدخل الأخ محمد فيما دخل فيه عموم المسلمين من القول بوجوب الشورى وتنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم من مخالفة أمر ربه سواء كان أمراً واجباً أم أمراً مستحباً‏.‏ فإن فعل ناقشنا معه القضية الثانية وهي إمامة المقلد، وإن لم يفعل وكان عنده شبهات جديدة جلوناها بحول الله وقوته‏.‏ ولن ندخل في مسألة ثانية حتى ننتهي من المسألة الأولى هذه والحمد لله أولاً وأخيراً‏.‏